٢٠٠٨-١٠-٢١

الإسكندرية بين حكاية الجد ورواية العاشق



روايتان بالأبيض والأسود عن الإسكندرية في فترة زمنية متشابهه
حكاية الجد (زهرة الخشخاش) لخيرى شلبى
ورواية العاشق (لا أحد ينام في الإسكندرية) لإبراهيم عبد المجيد
كان وما زال من الصعب محاولة الحياد في وصف الروايتين .. خاصة أنها أعمال إنسانية وبها بعض التفاصيل التاريخية والتوثيقية.
فمع ذاكرة ضعيفة أتذكر بوضوح إحساسي بالإحباط الشديد فور إنتهاء قراءة زهرة الخشخاش حيث النهاية السعيدة للأخيار والجزاء العادل للأشرار مع أنه علي طول الروايه لم أجد أخيار علي الأطلاق ...
الموضوع تلخص في إنصاف الفتي المتعلم من أصول ريفية بخروجه إلي دائرة المجتمع العامل المثقف في نهاية الرواية كنوع من الإعلاء لنتائج ثورة يوليو 52 في تصفية المجتمع المصري من أغنياء ما قبل الثورة وليس أكثر
الرواية حصرت الاسكندرية في شارعين وبيت ومكتب وأعمام مهاجرين من الريف وعلاقات بين المصرين واليهود المقيمين حيث يصورهم الكاتب علي انهم مصدر كل الفساد الأخلاقى والأنفلات والغش التجارى في هذا العالم في حين أنه في هذه الفترة كان السلام بين الطوائف هو من أهم سمات المجتمع السكندرى.
الروايه تصف حياة طبقة فوق المتوسطة في مرحلة كان فيها الفقر من نصيب عامة الشعب... وتكشف ما وراء الأبواب التي يدخلها البطل الفلاح الصغير الذي يعاشر المدينة لأول مرة ... ويتعايش مع الأسياد ويشارك تفاصيلهم من بعيد بسبب الاحتياج المادى في البداية ثم الطموح بعد ذلك.
في مرحلة أراها من أهم مراحل تكوين مصر الحديثة - حيث روح الثورة بدأت تدخل القلوب والمتعلمين زهور تتفتح - لم يوجد نموذج واحد قدوة على طول الرواية والأحداث كلها في تسلسل قدري بحت .. من صدفة لأخري ولا ملامح للعالم خلف أبواب الأبطال المغلقة دائما
وفي نهاية القصة تصفو الحياة أخيرا للبطل وينتقل للسكن من بيت الأشرار لمكان هو بالنسبه له حلم يتحقق ... علي بعد أمتار من سكنه القديم بيتهم الذي يراه من نافذته الجديدة كل يوم..
هي حكايات الجد يختصر الأماكن ويركز علي الأفراد.
رواية بديكورات داخلية.. قليلة المشاهد الخارجية ... رأيت الإسكندرية في الرواية مهمشة وكان من الممكن استبدالها بأي مدينة أخري دون الإخلال بسياق الأحداث .. لا أماكن واضحة تحمل ذكريات ولا علاقات البحر المتوسط الدافئة التي تصهر جميع الجنسيات وجميع اللهجات لتعطي لون ومذاق الإسكندرية الحق.

...


لا أحد ينام في الاسكندرية ..

رواية تأرخ للإسكندرية في الفترة من بداية إعلان الحرب العالمية الثانية وإلي يوم إعلان إنتهاءها حيث ظهر إسم الاسكندرية علي خريطة العالم وكان موضع انتباه وكيف أقحمتها أنجلترا في الحرب, كذلك تستعرض الرواية شكل الإسكندرية وأحياءها الشعبية وتفاصيل الحياة اليومية في فترة الأربعينات. كما جسدت الانصهار بين المسلمين والمسيحين الذي طالما اشتهرت به الاسكندريه. التسامح والقبول لكل ما هو إنسانى.
في الرواية الناس متعاطفين مع بعضهم ساعة اليسر وساعة الغارة وساعة الهجرة.
ومازلت الإسكندرية هكذا حتي اليوم صعب أن تحس فيها بفجاجة الانتقال بين الطبقات الاجتماعية كما فى مدن أخرى .. الفروق الاخلاقية ربما غير واضحة .. لعل السبب فى هواء البحر وكمية الأزرق في الألوان التي تسيطر علي الأماكن... وتلك الرائحة التي يعرفها الغريب عند دخوله المدينة وتصبغ علي الجميع هدوء نفسي وصفاء.
أولئك الموعودون بالغربة ... علاقة حميمة ودفء بين جميع الوافدين إلي المدينة بحثا عن الرزق في فترة عصيبة مرت علي العالم
يسير أبطال الرواية يقطعون جميع مناطق الاسكندرية القديمه فتتخيلها تماما كما هي الأن ولكن أكثر اتساعا ونظافة وألوان تري المدينة أكثر جمالا وهدوءا والناس رغم الفقر متأنقين .. بملابس العمل أو بالجلباب أو بالبدلة .. بالملابس الضيقة الملونة أو بالملاية اللف والبرقع .. الكل يتحرك في صورة جميلة.. تشم رائحة القهوة في شوارع محطة الرمل وتري السمك اللامع بين يدي الصيادين في الحلقة وعلي شاطئ الملاحات. الأطفال في ملابس العيد والميادين خضراء و تتسع للجميع, تمثال محمد على بنفس شموخه. لوحات يرسمها عاشق لهذه المدينة. مناطق ماتزال قائمة حتي اليوم مثل إمرأة جميلة مر عليها الزمن فهي في الشيخوخة ولكن مازالت روحها بنفس الجمال.
اللحظات المؤلمة في الرواية يتحول فيها كل عذاب إلي اسطورة ..صراع الحب بين المسيحية والمسلم يتحول إلي طاقة لخدمة الله والناس ... موت رفيق الكفاح يتحول لأسطورة الملاك الذي يرتفع علي حصان إلي السماء. والكاتب بمنتهي الحنان في الوصف يجعلك تتمني أن تختفي كل قوانين الطبيعة في هذه اللحظة وتتحقق الأساطير.
في المدينة السمحة تكتشف أن الأيات القرآنية قابلة للتطبيق علي جميع البشر .. كذلك الصلوات المسيحية هي لكل الناس لو دعوت بها في اي وقت هي كلمات للاستجابة.
نماذج إنسانية طيبة .. أري جدتي وهي شابة تتحرك وسط هؤلاء الناس أشياء كانت تحكيها لي أقرأها في سطور الكتاب محتواها أدب الناس واحترامهم لبعض.
في الثلث الأخير من الكتاب الدموع متلازمة بين كل حدث وأخر.
لا أحد ينام في الاسكندرية .. حيث دمرت الحرب المدينة .. وهاجر منها أغلب الناس .. ولكنى مازلت لا أستطيع أن أتخيلها خراب.
مع أنتهاء الحرب تقام الاحتفالات والأنوار تملأ المدينه والسماء وقلوب الناس ... يعود المهجرون إلي بيوتهم فيعيدوا بناء ما هدمتة الغارات.
وتستكمل الإسكندرية عملها اليومي في توزيع النورعلي الدنيا واحتواء الغرباء.

...

ليست هناك تعليقات: