٢٠٠٨-٠٨-٢١

عن صخب البحيرة ..


صخب البحيرة
محمد البساطي (فازت بجائزة احسن رواية لعام 1994)
مصنفة ضمن أفضل مئة رواية عربية من اتحاد الكتاب العرب
- أول قراءة عام 1998 - القراءة الثانية 8 /2008

هناك مناطق تشبه هذا المكان أحاول مرات استرجعها بصريا ... في مدينة دمياط حيث طريق تري من جانبه نهر وجانبه الأخر البحر... تفاصيل الفقر كأنها بالألوان الحقيقية .. ألوان الوجوه وملامح الرجال كما أعرفهم تماما من سكان إدكو والمعدية ورشيد في محافظة البحيرة

في الرواية ترتبط بأشياء مادية وتفاصيل شخصية غامضة تظل تتبعها من حالة لأخري وتسأل في عقلك ربما هناك علاقه بين هذا وذلك ؟

تعرض الروايه أربعة حالات مختلفة عاشت في المنطقه ما بين ملتقي البحيرة والبحر ولا رابط بينها سوى المكان بتفاصيله حتى أننا ننسي الزمن ونعبر سنوات لنصل من حالة لحالة دون أدني ملل أو خروج عن الجو العام .. تفاصيل متكررة لدرجة أنني أثناء القراءة أكاد أستمع لصوت الماء أو أري غيوما تمر عابره لبعيد فيما بعد النوه

الكاتب يصدمنا بواقع مجتمعنا من خلال التفاصيل الدقيقة ليوميات بشر من المهمشين في الحياه الذين لا تهمهم السلطة أو تغيرات العالم من حولهم

تفاصيل لا يمكن تخيلها إلا من خلال سرد محمد البساطى.. التي تربي في منطقة مشابهه في قريته الصغيرة المطلّة على بحيرة المنزلة

في الجزء الأول من الرواية تجلس المرأة علي حجر تحكي لرجلها – ذلك الصياد العجوز الذي يسكن قاربه -أنها لم تكن متزوجة من قبل ولكن رجلها الأول هو من قال ذلك للناس في القرية .. وحين علم بحملها ضربها وتركها ورحل وظلت من يومها تقول أنه مات.. وتسير الأحداث وتروي أن رجالا من سكان البحيرة كانوا يأتون إلي السوق للبيع والشراء هم من اعتني بها ووفر لها حياة كريمة طوال فترة حملها وكان كل منهم يقول عن حملها هذا ابني .. وكيف كانت اخلاقهم بمنتهي الوداعة والرحمة معها ويقولون أنهم أقاربها.. حتي من لا تعرفهم أو بالكاد تتذكر بعض ملامحهم .. هذا النوع من البشر خلق في داخلها حبا لمن هم خارج القرية
في هذه البيئة الفقيرة أو المعدمة تجلس المرأة تحكي تفاصيلها بلا خزي ولا إنكار فليس لديها ما تخسره .. وكل ما مر بها هو ما جعلها في هذا المكان تتقبل هذه الحياة وتتقبلها الحياة .. وحيدة هي وولديها التؤام في بيت صغير علي الشاطئ .. لا تري من العالم غير أشرعة بعيده تأتي من البحر ثم تختفي في هدوء
رجال البحيره علموها أشياء كثيرة علموها كيف تستغل كل ما تملك حتي لو كان برميلا ملقي في ساحة البيت

الصياد العجوز لم يتخلي عن قاربه وهو عالمة المتحرك وكذلك لم يتخلي عن دوره في توفير بيت لها وولديها كعالمها الذي اعتادت عليه
وبالتالى هي لن تتخلي عنه حتي يرحل في سكون
وعلي طول الرواية الشخصيات صريحة .. كامله الإنسانية بكل معني الكلمة من خير وشر .. وعلي سجيتها

تتغير علاقه أهل الأرض (سواء المزارعين أو البنائين) بأهل البحيرة وماوراءها (البحر) بتطور أحداث الرواية
أولاً تكون البحيرة مصدر الطعام.. ربما أيضا مجموعه من ألواح الخشب .. ألواح معدنيه .. اشياء أخري غريبة لا استعمال لها
ولكن في الأساس هي مصدر للطعام والمأوي.
لاحقا تتحول البحيرة لمصدر من مصادر الثقافه .. يرون من خلالها العالم الخارجي ... ملابس بألوان زاهية .. أسلحه قديمة .. أدوات شخصية ... صندوق موسيقي ... مقتنيات ذهبيه وزجاجات ملونة ... كلها أشياء تلقي بها البحيرة إلي الشاطئ أشياء تأتى من البحر بعد كل نوة ... لم تكن فقط حاجات للمنفعه الشخصيه أو الزينة إنما أيضا تجارة رائجة ومصدر رزق حين استغلها أحد سكان القرية كتجارة.
يجد بعضا من أهل القرية أن خلف هذا الماء عوالم أخري وأحيانا يتجرأ البعض علي الخروج للبحث عن تلك العوالم.
كل ذلك وأهل البحيرة يأتون إلي اليابسة يتزودن باحتياجاتهم الاساسية ويرحلون في سلام
ثم تتطور الزيارات إلي هجمات من أهل البحيرة علي أهل اليابسة .. ليس بغرض الغزو على الإطلاق إنما هو استعراض للقوة فقط .. ربما ينهبون بعض الاشياء ولكن بلا طمع فقط ما يأكلون .
ولكن هناك دائما صراع خفي وترقب من أهل اليابسة لأهل البحيرة

أهل القرية يستنكرون وجود أهل البحر لمجرد أنه مختلفين .. هم رجال غير مختونين .. والاختلاف هو فقط سبب الرفض
كانت البحيرة للبعض حلما عليه أن يدفع ثمنه سنوات من الغربة وأحيانا يدفع عمرة كاملا فلا يعود إلا جثة غارقة طافية علي سطح الماء بعد نوة.

صندوق يظهر ويختفي من بداية الرواية.. ذلك الصندوق الذي كان يحمله رجلها الأول وبه تضع كل ما تملك من مقتنيات ... يأخذه ويرحل
صندوق يحمله العجوز في قاربه به كل ما يمتلك من مقتنيات .. ثم يتركه ويموت
صندوق موسيقي يعثر عليه أحد الأشخاص علي الشاطئ بعد نوه .. ويتعلق به لدرجه الهوس .. أم الإيمان ... لم أكتشف بعد

تنتهي الروايه بمشهد غامض يعود بك إلي أولها ... سيده تأتي ومعها رجلان ... يحفران في الأرض ويأخذان رفات وعظام ميت ... وصندوق
هو نفس المشهد حين دفنت المرأة الأولي وولديها الصياد العجوز وبجانبه صندوقه.. هي عادت لتأخذه الي حيث ينتمي
نظرت إلي المكان وقد تحول إلي بيوت اسمنتيه ومجتمع كامل جديد .. أشارت إليه ولم تنطق.
أحسست في نفسي أنها حزينه على عالمها الأول الذى اقتحمه أهل القرية ... وكنت حزينة معها.

مشهد عالق بذاكرتي لإمرأة كانت تجمع ما يلقيه البحر علي الشاطئ ثم تخرج لتبيع بعضا منه هي وزوجها في السوق.. وها هي تمشي في سوق القرية ترتدي فستان قصير من الحرير يصل لركبتها لونه أصفربخطوط مائلة لونها بني وسوستة من الخلف , وفي قدميها حذاء أسود برقبة , وزوجها يتقدمها فوق الحمارة ..
تقول النساء في القرية الحذاء يشبه حذاء العسكرى .. الفستان منسول حول السوستة , وممزق عند الإبطين
والمرأة أوسعت من خطواتها ولحقت بزوجها

الرواية جعلتني أفكر ربما أبعد قليلا من المحتوي المكتوب ... هل شاطئ البحيرة أو القرية هى عالمنا الذي عشناه لأعمار كاملة واهمين أنه كل الدنيا .. وهل ما وراء البحيرة هو ما نرى اليوم من ثقافة أجنبيه اقتحمتنا مرة بالألوان البراقه ومرات أخري بالغزو الحقيقي ؟

هي روايه رائعة .. وراءها الكثير من المعاني وتستحق القراءة


...

هناك ١٥ تعليقًا:

RASHA يقول...

اعتقد انها رواية تستحق القراءة حقا هل السيدة التى ترتدى الفستان الاصفر والحذاء برقبة عالية من سياق الرواية ام هو من نسج خيالك?? لا اعلم ولكن لمسنى جداهذا المشهد عزيزتى منذ قرئت لكى اول مرة وانا ارى ملامح مشتركة فى اسلوب الكتابة بينك وبين شخصية احبها واحترمها كثيرا ولا اخفيك سرا يمكن هذا السبب يدفعنى لزيارة مدونتك باستمرار تحياتى ودمتى بالف خير

speaking يقول...

shasha

أشكرك للمتابعة
قصه المرأة بالفستان الأصفر هي بالنص من الكتاب
وهي ضمن صور كثيرة وضعها الكاتب الجميل ضمن سياق الرواية

أنا شخصيا لا أعرف لنفسي شكلا في الكتابه ومعك حق ربما هو حتي الأن تقليد لأشخاص أحبهم وأحترمهم .. كل ما أعرفه أنما أكتبه هو شئ يمسني بعمق

سلام

الريم يقول...

القصة جميلة اوى وتجنن انشالله اشتريها بس لما افضى عشان عندى شوية شغل اليومين دول بقولك يا قمر انتى عملتيلى add امبارح صح بس انا مش متاكدة انتى ولا لا

speaking يقول...

الحقيقه أنا نشرت التعليق ده مخصوص إهذاء للريم
وتعليق علي فكره الساحلية وتعلقك الشخصي بالبحر
الكتاب جميل بيشرح الفرق بين فكر القروي والساحلي بشكل روائي رائع وبسيط .. وأيضا عميق
وطبعا لما قرأتها زمان لم تكن تحمل تلك المعاني ... لكن الفضل الأن لأشخاص تعلمت منهم كيف تكون قراءة ما وراء الكلمات

عملتلك أد يا ريم فعلا
تحياتي

lastknight يقول...

الروايه تنويع من أروع مايكون عن علاقة الفلاح بالملاح .. أظن كافة اسقاطاتها جائت بتعمد من البساطى ليوضح قدرة الملاح على التعايش و التقبل و التطور .. فمن احتضان امرأه حبلى وولديها دون سؤال عن ماضى .. ألى استطلاع مندهش و متفتح فى آن لكل ما يأتى مما بعد الماء .. بينما يغرق الفلاح فى ثباته لا يرغب فى التحرك مما يظنه حصن الأمان .. و لا يجد الفلاح معينا على التعامل مع غيرته الحاقده من الملاح سوى اللجوء لأيمان الناس بالغيبيات .. فتسرى شائعة أن الملاحين غير مختونين .. و يتجمهر الفلاحين لمنع الملاحين من السوق .. كبير الملاحين هنا يتصرف بحكمه و ثقه و أيضا شجاع بالغه و مواجهه تعودها .. فالملاحين مختونين و الأمر لا يتطلب سوى أثبات ذلك و على الملاء .. فيدفع بأحدهم ليكشف حقيقة نفسه .. و تخرس ألسنه المتنطعين على الغيبيات
شخصيه أخرى ملفته فى الروايه لا أدرى كيف أغفلتيها فى العرض .. هى شخصية البقال صاحب القهوه .. الذى ضربته غواية الملاحه .. فصار فى صراع بين سبات الثبات فى قريته .. و بين ميله للحريه و الحق و الأنسانيه و أيضا المغامره .. يستجيب فى النهايه للغوايه .. و أظن نهايته كان أن عاد جثه فضحنها ساء الفلاحين .. لا أذكر بالظبط فقد قرأت القصه منذ الثمانينات
عموما أظن القصه انعاكس مبدع لفكرة الراحل جمال حمدان عن صراع الفلاح و الملاح .. و أظن مراجعة كتاب استراتيجية الأستعمار و التحرير لجمال حمدان ستعطى نكهه خاصه لتلك القصه

الريم يقول...

ازيك يا قمر انا بعتالكك تاج عشان تحليه وهو مش غلس عن التدوين مالوش علاقة باسرار وبتحب تلبس ايه وتاكل ايه وتنام الساعة كام ياريت تزورينى عشان تعرفى طبيعة الاسئلة

speaking يقول...

lastknight

معك حق لم اتطرق لشخصيتي البقال وصاحب المقهي لعدم التطويل في الحكي
ولكني ذكرت أن بعض الناس كان يغويهم ما خلف البحيره وربما يدفعون سنوات أة حياتهم كلها ثمنا لتلك الغوايه ولا يعودون سوي جثث طافية علي سطح الماء
المشوق في الروايه بالنسبه لي كان تتبع السرد في محاوله للربط
ولكن النتيجه كانت أعمق بكثير من مجرد وجود ربط بين الاشخاص
سلام

speaking يقول...

ريم

هو بيتبعت علي فين التاج ده؟ والاقيه إزاي؟
أنا مش بأفهم في الحاجات دي
وموضوع المزيكا برضه.. نفسي أحط مزيكا ومش عارفه
..
:)

ســـــــهــــــــــر يقول...

هذا النوع من البشر خلق في داخلها حبا لمن هم خارج القرية
-------------------------------
تاملت الجمله فودتها جميلة الصحه
نعم هناك يفتحون ابواب قلوبنا للغير و العكس ايضا صحيح

روايه احسنت التقديم عنها فوجدتنى اريد قرائتها
--------------------

ملاحظه اخرى
بوست بعنوان ( عن صخب البحيره ) و الاخر بعنوان ( نوات ) و البلوج بعنوان ( secret talk)
و البحر هو فى نظرى و نظر الاخرين حامل الاسرار

سيدتى
هنا فن و روعه و خيال
سازورك كثيرا

هانى زينهم يقول...

ادب الرواية الطويلة الفكرة الاساسية اللى بيقوم عليها ان كل انسان يستشف من الرواية افكاره وانطباعاته الشخصية عنها وكل ما الانطباعات دى اختلفت من حد لحد كل ما نجح الراوى فى توصيل الفكرة وعموما هى رواية جيدة لاديب جيد وانطباعك عنها يستحق التحية وشكرا

القناطر الثانوية بنات يقول...

أنا برضه زيك بحب محمد البساطي
كتاباته رشيقة العبارة وإسقاطاته سهلة ومرتبط جدا بالمكان وشديد المصرية ...
تحياتي علي ذوقك في عرض الرواية وجمال الأسلوب

speaking يقول...

سهر

(: البيئة بتحكم

أشكرك لتشجيعك ,, أري تعليقك مصنف ضمن من يفتحون ابواب قلوبنا للغير

سلام

speaking يقول...

أ/ هانى
الكتابة الناجحة هي ما يستطيع أكبر عدد من الناس فهم مغزاها واسقاطتها
وربما معايشتها مع تجارب شخصية في عقله الباطن أحيانا
وهنا في صخب البحيرة أتمني أن أكون قد وصلت بعقلي الضئيل لبعض مما كان يرسل هذا الكاتب الجميل
سلام

speaking يقول...

أ/ رائد

لفترة طويلة أعتقدت أن القراءة من العادات المنقرضة وأن هناك بدائل للتثقيف.. ولكن مع الوقت أقر أنه لا متعة تعادل مجالسه كاتب جميل يحترم عقلة ويحترم من يقرأ له

أشكرك لتشجيعك

Abdallah nadi يقول...

قراءة ثاقبة جدا ، شاعرة الى حد كبير ، متذوقة لكل تفصيلة من تفاصيل الرواية ، احببت لغة محمد البساطي الساحرة ، امتعتني على طول الرواية ، وتركت في ذهني علامات تعجب كثيرة لاشياء تبدو غامضة لي ، الا ان تحليلك اضاء الكثير والكثير ، تدور احداث الرواية على شاطئ البحيرة ، تماما عند مصب النهر ، حيث يمثل الشاطئ نقطة التلاقي بين ابناء القرية والوافدين من الخارج
بين الموروث والجديد فهي تفتح العديد من التساؤلات حول رموزها التي تتحرك مع شخصيات الرواية مع صناديقهم التي تبدوا كحياتهم يحملوها فوق اكتافهم ، مع السيوف والغدارات التي تبدو كالقلاع التي تبنى على شواطئ لترمز الى عهد بائد ، الاثر الذي تركوه هنا
كما توحي اشاريا الى سكان الجزر غير المختونين ، الذين يتعاملون بكلمة واحد ، وكانهم الاوربيين ، الذي يكرههم اهل القرية ، ويكيدوا لهم الى ان يقفوا لهم صفوفا ، يمنعوهم من العبور ، لسبب واهي ، غير مختونين ،
ومع تلك المكائد الا انهم لا يتوقفوا ان ياخذوا ما يأتي من ناحيتهم ، الصناديق الموسيقية وكانها الراديو او التلفاز
ثم يحاولوا ان يعبروا البحر في اتجاههم ، هاربين ، كالهجرة غير الشرعية ناحيتهم ، الى ان تفشل مراكبهم احيانا فيعودوا جثث طافية على الشاطئ